فصل: مناسبة الآية لما قبلها:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.تفسير الآيات (48- 52):

قوله تعالى: {فاصْبِرْ لِحُكْمِ ربِّك ولا تكُنْ كصاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نادى وهُو مكْظُومٌ (48) لوْلا أنْ تداركهُ نِعْمةٌ مِنْ ربِّهِ لنُبِذ بِالْعراءِ وهُو مذْمُومٌ (49) فاجْتباهُ ربُّهُ فجعلهُ مِن الصّالِحِين (50) وإِنْ يكادُ الّذِين كفرُوا ليُزْلِقُونك بِأبْصارِهِمْ لمّا سمِعُوا الذِّكْر ويقولون إِنّهُ لمجْنُونٌ (51) وما هُو إِلّا ذِكْرٌ لِلْعالمِين (52)}

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما انتفى جميع ذلك فثبت أنهم على خطر عظيم، وأنه سبحانه المختص بعلم الغيب، وقد أخبر بإهلاكهم من أجله صلى الله عليه وسلم، وأن كفر من كفر وإيمان من آمن بقضائه وتقديره، فكان لابد منهما، كان ذلك سببا حاملا له على الصبر إلى الوقت الذي ضربه سبحانه للفرج، فقال مسببا عما تقديره: لم يكن له شيء مما ذكر، وإنما هو القضاء والقدر: {فاصبر} أي أوفر الصبر وأوجده على كل ما يقولون فيك وعلى غير ذلك من كل ما يقع منهم ومن غيره من مر القضاء والقدر {لحكم ربك} أي للقضاء الذي قضاه وقدره المحسن إليك الذي أكرمك بما أكرمك به من الرسالة وألزمك بما ألزمك من البلاغ وخذلهم بالتكذيب ومد لهم على ذلك في الآجال وأوسع عليهم النعم وأخر ما وعدك به من النصر.
ولما كان حاصل قصة يونس- على نبينا وعليه أفضل الصلاة والسلام- أنه استثقل الكرامة بالرسالة لما فيها من الأمور الشديدة من معالجة الخلق فامتحن، كان سببا لقبوله ذلك، ثم كان سبب إسلام قومه إدناء العذاب منهم وتقريب غشيانه لهم، أشار له بقصته إلى أنه يراد إعلاؤه- صلى الله عليه وسلم وعلى سائر الأنبياء- وإعلاء أمته على سائر الأمم بما يحتاج إلى صبر على ما يستثقل من ضر أو أمر شديد مر فقال: {ولا تكن} أي ولا يكن حالك في الضجر والعجلة إلى غير ذلك.
ولما كان قد افتتح السورة بالنون الذي من مدلولاته الحوت، عبر به هنا تحقيقا لإرادته فقال: {كصاحب} أي كحال صاحب {الحوت} وهو يونس بن متى عليه الصلاة والسلام {إذ} أي حين، والعامل في هذا الظرف المضاف المحذوف من الحال ونحوها، أو يكون التقدير: لا يكن حالك كحاله يحصل لك مثل ما حصل له حين {نادى} أي ربه المربي له بإحاسنه في الظلمات من بطن الحوت وظلمة ما يحيط به من الجثة وظلمة لحج البحار {وهو} أي والحال أنه عند ندائه {مكظوم} أي مملوء كربا وهما وشدة وغما محمول على السكوت ببطنه فهو لا ينطق من شدة حزنه، ومحبوس عن جميع ما يريد من التصرف إلى أن ألجأه سبحانه بذلك إلى الدعاء والتضرع، من الكظم، وهو السكوت عن امتلاء وتجرع للمرارات، ومن هذا كظمت السقاء أي شددته وملأته فكان مكظوما، والمكظوم: المكروب- كأنه قد أخذ بكظمه وهو مخرج نفسه.
ولما تشوف السامع إلى ما كان من أمره بعد هذا الأمر العجيب قال: {لولا أن} وعظم الإحسان بالتذكير وصيغة التفاعل فقال: {تداركه} أي أدركه إدراكا عظيما كان كلاّ من النعمة والمنة يريد أن تدرك الآخر {نعمة} أي عظيمة جدا {من ربه} أي الذي أرسله وأحسن إليه بإرساله وتهذيبه للرسالة والتوبة عليه والرحمة له {لنبذ} أي لولا هذه الحالة السنية التي أنعم الله عليه بها لطرح طرحا هينا جدا {بالعراء} أي الأرض القفر التي لا بناء فيها ولا نبات، البعيدة من الإنس حين طرح فيها كما حكم بذلك من الأزل {وهو} أي والحال أنه {مذموم} أي ملوم على الذنب، ولما كان التقدير: ولكنه تداركه بالنعمة فلم يكن في نبذه ملوما، سبب عنه قوله: {فاجتباه} أي اختاره لرسالته {ربه} ثم سبب عن اجتبائه قوله: {فجعله من الصالحين} أي الذين رسخوا في رتبة الصلاح فصلحوا في أنفسهم للنبوة والرسالة وصلح بهم غيرهم، فنبذ بالعراء وهو محمود، ومن صبر أعظم من صبره كان أعظم أجرا من أجره، وأنت كذلك فأنت أشرف العاملين والعالمين.
ولما نهاه صلى الله عليه وسلم عن طاعة المكذبين وحذره إدهانهم وضرب لهم الأمثال، وتوعدهم إلى أن قال: {ذرني ومن يكذب بهذا الحديث سنستدرجهم} وختم بقصة يونس عليه السلام للتدريب على الصبر وعدم الضعف ولو بالصغو إلى المدهن، فكان التقدير تسبيبا عما فيها من النهي: فإنهم إنما يبالغون في أذاك لتضجر فتترك ما أنت فيه، قال عاطفا على هذا المقدر مخبرا له بما في صدورهم من الإحن عليه وفي قلوبهم من الضغائن له ليشتد حذره من إدهانهم، مؤكدا لأن من يرى إدهانهم يظن إذعانهم وينكر لمبالغتهم فيه طغيانهم: {وإن} أي وإنه {يكاد} وأظهر موضع الإضمار تعميما وتعليقا للحكم بالوصف فقال: {الذين كفروا} أي ستروا ما قدروا عليه مما جئت به من الدلائل.
ولما كانت (إن) مخففة، أتى باللام التي هي علمها فقال: {ليزلقونك} أي من شدة عداوتهم وحسدهم وغيظ قلوبهم {بأبصارهم} أي يوجدون لك التنحية عما أنت فيه والزلل العظيم الذي صاحبه في موضع دحض لا مستمسك فيه بالهلاك فما دونه من الأذى حتى يرموك من قامتك إلى الأرض كما يزلق الإنسان فينطرح لما يتراءى في عيونهم حين تصويب النظر للفطن من الحنق والسخط الدال على أن صدورهم تغلي، وهو من قولهم: نظر إليّ نظرا كاد يصرعني، يعني لو أمكنه أن يصرعني به لصرعني كما قال تعالى: {يكادون يسطون بالذين يتلون عليهم آياتنا} [الحج: 72] وقيل: يهلكونك بإصابة العين، قال القشيري: كانوا إذا أرادوا أن يصيبوا شيئا بأعينهم جاعوا ثلاثة أيام ثم نظروا إلى ذلك الشيء وقال: ما أحسنه من شيء، فيسقط المنظور إليه في الوقت، ففعلوا ذلك بالنبي صلى الله عليه وسلم وقالوا: ما أنصحه من رجل، فحفظه الله منهم، وللشيخين عن أبي هريرة-رضي الله عنه- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «العين حق» وفي رواية عند أحمد وابن ماجة: «يحضر بها الشيطان وحسد ابن آدم» ولأحمد عن ابن عباس- رضى الله عنهما- رفعه: «العين حق ولو أن شيئا سابق القدر سبقته العين، وإذا استغسلتم فاغسلوا» ولأبي نعيم في الحلية من حديث جابر-رضي الله عنه- رفعه: «العين حق تدخل الجمل القدر والرجل القبر» ولأبي داود من حديث أسماء بنت يزيد رضي الله عنها: «وإنها لتدرك الفارس فتدعثره».
ولما ذكر هذا الإزلاق العظيم، ذكر ظرفه معبرا بالماضي تذكيرا بالحال الماضية فقال: {لما سمعوا الذكر} أي القرآن الذي غلب عليه التذكير بأمور يعليها كل أحد من نفسه، ومن الآفاق كان هواياه أول ما سمعوه حسدا على ما أوتيت من الشرف فكان سماعهم له باعثا لما عندهم من البغض والحسد على أنه لم يزدهم تمادي الزمان إلا حنقا بدلالة {ويقولون} أي قولا لا يزالون يجددونه.
ولما كان صلى الله عليه وسلم في غاية البعد عما يشين، أكدوا قولهم: {إنه لمجنون} حيرة في أمرك وتنفيرا عنك لما يعلمون من أنه لا يسمعه أحد لا غرض له إلا كذبهم ومال بكليته إليك وكان معك وارتبط بك واغتبط بما جئت به، وعن الحسن أن قراءة هذه الآية دواء للإصابة بالعين.
ولما كان معنى قولهم هذا أن ما يقوله تخاليط من يصرع بالجن، أكد بقصر القلب قوله معجبا منهم {وما} أي والحال أن هذا القرآن أو الرسول صلى الله عليه وسلم ما {هو إلا ذكر} أي موعظة وشرف {للعالمين} أي كلهم عاليهم ودانيهم ليس منهم أحد إلا وهو يعلم أنه لا شيء يشبهه في جلالة معانيه وحلاوة ألفاظه وعظمة سبكه ودقة فهمه ورقة حواشيه وجزالة نظومه، ويفهم منه على حسب ما هيأه الله له ليناسب عموم ذكريته عموم الرسالة للمرسل به، وكل ما فيه من وعد ووعيد وأحكام ومواعظ شامل لهم كلهم، فوجبت التفرقة بين مسلمهم ومجرمهم لتصدق أقواله فيكمل جلاله وجماله فقد رجعت خاتمتها- كما ترى- على فاتحتها بالنون والقلم وما يسطرون من هذا الذكر، وسلب ما قالوا فيه من الجنون والإقسام على الخلق العظيم الذي هو هذا الذكر الحكيم، ونبه كونه ذكرا لجميع الخلق بما فيه من الوعد والوعيد على أنه لابد من الحاقة وهي القيامة ليظهر فيها تأويله وإجماله وتفصيله، ويتضح غاية الاتضاح سبيله، وتحق فيها حقائقه وتظهر جلائله ودقائقه بما يقع من الحساب، ويتبين غاية البيان ويظهر الخطأ من الصواب- والله الهادي. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

{فاصْبِرْ لِحُكْمِ ربِّك ولا تكُنْ كصاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نادى وهُو مكْظُومٌ (48)}
ثم إنه تعالى لما بالغ في تزييف طريقة الكفار وفي زجرهم عما هم عليه قال لمحمد صلى الله عليه وسلم: {فاصبر لِحُكْمِ ربّك} وفيه وجهان الأول: فاصبر لحكم ربك في إمهالهم وتأخير نصرتك عليهم والثاني: فاصبر لحكم ربك في أن أوجب عليك التبليغ والوحي وأداء الرسالة، وتحمل ما يحصل بسبب ذلك من الأذى والمحنة.
ثم قال تعالى: {ولا تكُن كصاحب الحوت إِذْ نادى وهُو مكْظُومٌ} وفيه مسألتان:
المسألة الأولى:
العامل في {إِذْ} معنى قوله: {كصاحب الحوت} يريد لا تكن كصاحب الحوت حال ندائه وذلك لأنه في ذلك الوقت كان مكظوما فكأنه قيل: لا تكن مكظوما.
المسألة الثانية:
صاحب الحوت يونس عليه السلام، إذ نادى في بطن الحوت بقوله: {لاّ إله إِلاّ أنت سبحانك إِنّى كُنتُ مِن الظالمين} [الأنبياء: 87]، {وهُو مكْظُومٌ} مملوء غيظا من كظم السقاء إذا ملأه، والمعنى لا يوجد منك ما وجد منه من الضجر والمغاضبة، فتبلى ببلائه.
{لوْلا أنْ تداركهُ نِعْمةٌ مِنْ ربِّهِ لنُبِذ بِالْعراءِ وهُو مذْمُومٌ (49)}
وقرئ {رحمة من ربه}، وهاهنا سؤالات:
السؤال الأول: لم لم يقل: لولا أن تداركته نعمة من ربه؟ الجواب: إنما حسن تذكير الفعل لفصل الضمير في تداركه، وقرأ ابن عباس وابن مسعود {تداركته}، وقرأ الحسن: {تداركه}، أي تتداركه على حكاية الحال الماضية، بمعنى لولا أن كان، يقال: فيه تتداركه، كما يقال: كان زيد سيقوم فمنعه فلان، أي كان يقال فيه: سيقوم، والمعنى كان متوقعا منه القيام.
السؤال الثاني: ما المراد من قوله: {نِعْمةٌ مّن رّبّهِ}؟ الجواب: المراد من تلك النعمة، هو أنه تعالى أنعم عليه بالتوفيق للتوبة، وهذا يدل على أنه لا يتم شيء من الصالحات والطاعات إلا بتوفيقه وهدايته.
السؤال الثالث: أين جواب لولا؟ الجواب: من وجهين الأول: تقدير الآية: لولا هذه النعمة لنبذ بالعراء مع وصف المذمومية، فلما حصلت هذه النعمة لا جرم لم يوجد النبذ بالعراء مع هذا الوصف، لأنه لما فقد هذا الوصف: فقد فقد ذلك المجموع الثاني: لولا هذه النعمة لبقي في بطن الحوت إلى يوم القيامة، ثم نبذ بعراء القيامة مذموما، ويدل على هذا قوله: {فلوْلا أنّهُ كان مِن المسبحين للبِث في بطْنِهِ إلى يوْمِ يُبْعثُون} [الصافات: 143، 144] وهذا كما يقال: عرصة القيامة؛ وعراء القيامة.
السؤال الرابع: هل يدل قوله: {وهُو مذْمُومٌ} على كونه فاعلا للذنب؟ الجواب: من ثلاثة أوجه الأول: أن كلمة {لوْلا} دلت على أن هذه المذمومية لم تحصل الثاني: لعل المراد من المذمومية ترك الأفضل، فإن حسنات الأبرار سيئات المقربين الثالث: لعل هذه الواقعة كانت قبل النبوة لقوله: {فاجتباه ربُّهُ} [القلم: 50] والفاء للتعقيب.
السؤال الخامس: ما سبب نزول هذه الآيات؟ الجواب: يروى أنها نزلت بأحد حين حل برسول الله ما حل، فأراد أن يدعو على الذين انهزموا، وقيل: حين أراد أن يدعو على ثقيف.
{فاجْتباهُ ربُّهُ فجعلهُ مِن الصّالِحِين (50)} فيه مسألتان:
المسألة الأولى:
في الآية وجهان أحدهما: قال ابن عباس: رد الله إليه الوحي وشفعه في قومه والثاني: قال قوم: ولعله ما كان رسولا صاحب وحي قبل هذه الواقعة ثم بعد هذه الواقعة جعله الله رسولا، وهو المراد من قوله: {فاجتباه ربُّهُ} والذين أنكروا الكرامات والإرهاص لابد وأن يختاروا القول الأول.
لأن احتباسه في بطن الحوت وعدم موته هناك لما لم يكن إرهاصا ولا كرامة فلابد وأن يكون معجزة وذلك يقتضي أنه كان رسولا في تلك الحالة.
المسألة الثانية:
احتج الأصحاب على أن فعل العبد خلق الله تعالى بقوله: {فجعلهُ مِن الصالحين} فالآية تدل على أن ذلك الصلاح إنما حصل بجعل الله وخلقه، قال الجبائي: يحتمل أن يكون معنى جعله أنه أخبر بذلك، ويحتمل أن يكون لطف به حتى صلح إذ الجعل يستعمل في اللغة في هذه المعاني والجواب: أن هذين الوجهين اللذين ذكرتم مجاز، والأصل في الكلام الحقيقة.
قوله تعالى: {وإِن يكادُ الذين كفرُواْ ليُزْلِقُونك بأبصارهم لمّا سمِعُواْ الذكر} فيه مسألتان:
المسألة الأولى:
إن مخففة من الثقيلة واللام علمها.
المسألة الثانية:
قرئ: {ليُزْلِقُونك} بضم الياء وفتحها، وزلقه وأزلقه بمعنى ويقال: زلق الرأس وأزلقه حلقه، وقرئ {ليزهقونك} من زهقت نفسه وأزهقها، ثم فيه وجوه أحدها: أنهم من شدة تحديقهم ونظرهم إليك شزرا بعيون العداوة والبغضاء يكادون يزلون قدمك من قولهم: نظر إليّ نظرا يكاد يصرعني، ويكاد يأكلني، أي لو أمكنه بنظره الصرع أو الأكل لفعله، قال الشاعر:
يتقارضون إذا التقوا في موطن ** نظرا يزل مواطئ الأقدام

وأنشد ابن عباس لما مر بأقوام حددوا النظر إليه:
نظروا إلي بأعين محمرة ** نظر التيوس إلى شفار الجازر

وبين الله تعالى أن هذا النظر كان يشتد منهم في حال قراءة النبي صلى الله عليه وسلم للقرآن وهو قوله: {لمّا سمِعُواْ الذكر} الثاني: منهم من حمله على الإصابة بالعين، وهاهنا مقامان أحدهما: الإصابة بالعين، هل لها في الجملة حقيقة أم لا؟ الثاني: أن بتقدير كونها صحيحة، فهل الآية هاهنا مفسرة بها أم لا؟.
المقام الأول: من الناس من أنكر ذلك، وقال: تأثير الجسم في الجسم لا يعقل إلا بواسطة المماسة، وهاهنا لا مماسة، فامتنع حصول التأثير.
واعلم أن المقدمة الأولى ضعيفة، وذلك لأن الإنسان إما أن يكون عبارة عن النفس أو عن البدن، فإن كان الأول لم يمتنع اختلاف النفوس في جواهرها وماهياتها، وإذا كان كذلك لم يمتنع أيضا اختلافها في لوازمها وآثارها، فلا يستبعد أن يكون لبعض النفوس خاصية في التأثير، وإن كان الثاني لم يمتنع أيضا أن يكون مزاج إنسان واقعا على وجه مخصوص يكون له أثر خاص، وبالجملة فالاحتمال العقلي قائم، وليس في بطلانه شبهة فضلا عن حجة، والدلائل السمعية ناطقة بذلك، كما يروى أنه عليه الصلاة والسلام قال: «العين حق» وقال: «العين تدخل الرجل القبر والجمل القدر».
والمقام الثاني: من الناس من فسر الآية بهذا المعنى قالوا: كانت العين في بني أسد، وكان الرجل منهم يتجوع ثلاثة أيام فلا يمر به شيء، فيقول فيه: لم أر كاليوم مثله إلا عانه، فالتمس الكفار من بعض من كانت له هذه الصفة أن يقول في رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك، فعصمه الله تعالى، وطعن الجبائي في هذا التأويل وقال: الإصابة بالعين تنشأ عن استحسان الشيء، والقوم ما كانوا ينظرون إلى الرسول عليه السلام على هذا الوجه، بل كانوا يمقتونه ويبغضونه، والنظر على هذا الوجه لا يقتضي الإصابة بالعين.
واعلم أن هذا السؤال ضعيف، لأنهم وإن كانوا يبغضونه من حيث الدين لعلهم كانوا يستحسنون فصاحته، وإيراده للدلائل.
وعن الحسن: دواء الإصابة بالعين قراءة هذه الآية.
ثم قال تعالى: {ويقولون إِنّهُ لمجْنُونٌ} وهو على ما افتتح به السورة.
{وما هُو} أي وما هذا القرآن الذي يزعمون أنه دلالة جنونه {إِلاّ ذِكْرٌ للعالمين} فإنه تذكير لهم، وبيان لهم، وأدلة لهم، وتنبيه لهم على ما في عقولهم من أدلة التوحيد، وفيه من الآداب والحكم، وسائر العلوم مالا حد له ولا حصر، فكيف يدعى من يتلوه مجنونا، ونظيره مما يذكرون، مع أنه من أدلة الأمور على كمال الفضل والعقل، والله أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. اهـ.